السيد التيجاني يكتب: تشابهار.. كيف تحوّل حلم الهند إلى كابوس استراتيجي؟

مع دخول قرار الولايات المتحدة بإلغاء الإعفاءات الخاصة بميناء تشابهار الإيراني حيّز التنفيذ في 29 سبتمبر،
وجدت نيودلهي نفسها في قلب أزمة استراتيجية عميقة، بعدما كانت ترى في المشروع تجسيداً لطموحاتها الكبرى في آسيا الوسطى ومنافساً لميناء جوادر الباكستاني المدعوم من الصين.
القرار لم يضع استثمارات الهند المباشرة في خطر فحسب، بل هزّ أيضاً صورة “الاستقلال الاستراتيجي” التي سعت حكومة مودي إلى ترسيخها خلال العقد الأخير.
تشابهار: بوابة الأمل الهندي
منذ توقيع الاتفاق بين الهند وإيران في 2016 لتطوير ميناء تشابهار، نظر إليه كممر حيوي للهند لتجاوز القيود الجغرافية التي تفرضها باكستان على تجارتها مع أفغانستان وآسيا الوسطى.
الهند أنفقت أكثر من 120 مليون دولار في تطوير البنية التحتية، ومدّت خط ائتمان بقيمة 250 مليون دولار لطهران،
معتبرة أن الميناء سيكون حلقة رئيسية في ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، الذي يربط الهند بروسيا وأوروبا.
لم يكن المشروع اقتصادياً فقط؛ بل حمل أبعاداً سياسية واستراتيجية واضحة. فقد أرادت نيودلهي أن تقدّم نفسها كبديل موثوق لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية،
وأن تجد لنفسها موطئ قدم في التنافس على الموانئ والممرات التجارية.
الرهان على تساهل واشنطن
عام 2018، حين انسحب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، فرضت واشنطن سلسلة من العقوبات على طهران.
غير أن ميناء تشابهار حصل على استثناء خاص، باعتباره أداة لتسهيل إعادة إعمار أفغانستان. هذا الاستثناء أعطى الهند ثقة بأن المشروع محصّن من تقلبات السياسة الأمريكية.
وزير الخارجية الهندي س. جايشانكار صرّح في العام الماضي بأن واشنطن “تدرك الأهمية الاستراتيجية لتشابهار”، ما عزّز الانطباع بأن المشروع يتمتع بحماية طويلة الأمد.
لكن هذا التصور تبيّن أنه مبني على أرضية هشة، إذ قررت إدارة واشنطن الحالية إلغاء الإعفاءات ضمن سياسة “الضغط الأقصى” على إيران.
ضربة مزدوجة: اقتصاد ومصداقية
إلغاء الإعفاءات لا يهدد الأموال المستثمرة فحسب، بل يضع كل شركة ومسؤول هندي يعمل في الميناء تحت خطر العقوبات الأمريكية.
الشركات الهندية الكبرى، التي تتعامل مع الأسواق الغربية، باتت مترددة في مواصلة الانخراط في المشروع خوفاً من تبعات مالية وقانونية.
الأخطر من ذلك هو الضربة التي تلقّتها مصداقية الهند الإقليمية. فقد قدّمت نيودلهي نفسها لشركائها في آسيا الوسطى وأفغانستان وأوروبا على أنها قوة يمكن الوثوق بها في مواجهة الصين وباكستان.
أما اليوم، فإن شركاءها يطرحون أسئلة صعبة حول مدى قدرتها على حماية استثماراتها أو الالتزام بتعهداتها أمام ضغوط أمريكية متزايدة.
الصين وباكستان: المستفيدان المباشران
بالنسبة لإسلام آباد وبكين، التطور يمثل “هدية استراتيجية”.
فبينما يتعثر مشروع تشابهار، يتواصل التوسع في ميناء جوادر الباكستاني ضمن إطار الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC)، الذي يحظى بتمويل ضخم ورؤية واضحة.
هذا الفارق يعمّق الانطباع بأن الصين قادرة على فرض استراتيجيتها عبر الالتزام طويل الأمد،
بينما تبدو الهند أكثر عرضة لتقلبات التحالفات الدولية. وبذلك، يجد قادة باكستان والصين مادة إضافية للتشكيك في جدوى الرهان على نيودلهي كشريك اقتصادي أو لوجستي.
انتقادات داخلية لحكومة مودي
في الداخل الهندي، يواجه رئيس الوزراء ناريندرا مودي انتقادات متزايدة من المعارضة التي ترى أن حكومته أخفقت في تقدير هشاشة المشروع. فقد جرى الترويج لتشابهار كـ “رمز للوُضوح الاستراتيجي للهند الجديدة”،
لكن الواقع أظهر أن الرهان كان مقامرة باهظة الثمن.
محللون هنود شبّهوا الموقف بـ “انكشاف استراتيجي”، حيث ربطت الحكومة طموحاتها باستثناء أمريكي مؤقت بدلاً من بناء استراتيجية مرنة.
المقارنة مع تجارب دول مثل فيتنام أو بنغلاديش تبرز الفارق: هذه الدول استثمرت في موانئ إقليمية بميزانيات مدروسة، من دون رهن مستقبلها على تناقضات السياسة الأمريكية تجاه إيران.
أبعاد جيوسياسية أوسع
القرار الأمريكي لا يُقرأ فقط في سياق الضغط على إيران، بل في إطار رسائل إلى حلفاء واشنطن. فهو يذكّر الهند بأن استقلالها الاستراتيجي ليس مطلقاً، وأن التوازن بين واشنطن وطهران وبكين مهمة شبه مستحيلة.
بالنسبة للمنطقة، يُضعف تعثر تشابهار إمكانية بناء ممر تجاري بديل يعزز التعاون بين جنوب آسيا وآسيا الوسطى بعيداً عن النفوذ الصيني.
كما أنه يعيد ترتيب الحسابات في كابول وعواصم آسيا الوسطى، التي كانت تراهن على الهند كجسر للتواصل مع الأسواق العالمية.
يرى الخبير الإيراني في شؤون آسيا الوسطى، محمد مرندي، أن “إلغاء الإعفاءات يثبت أن نيودلهي أخطأت حين اعتقدت أن واشنطن ستغض الطرف عن مصالحها مع طهران.
الولايات المتحدة لا تسمح لحلفائها بالتحرك خارج حدود معينة”.
يوضح المحلل الهندي هارش بانت إن “الهند راهنت على أنها تستطيع لعب دور الوسيط بين واشنطن وطهران، لكنها وجدت نفسها مكشوفة. هذه لحظة مراجعة كبرى للسياسة الخارجية الهندية”.
أما الباحث الباكستاني عارف رفيق، فيرى أن “تعثر تشابهار يعزز منطق جوادر. ما تقدمه الصين من التزامات واستثمارات طويلة الأمد يبدو أكثر جاذبية من وعود نيودلهي التي تنهار أمام العقوبات”.
توقعات المستقبل
أمام هذه الأزمة، تطرح عدة سيناريوهات:
1. انسحاب تدريجي للهند: قد تتراجع نيودلهي عن التزاماتها في تشابهار لتفادي العقوبات، ما سيجعل المشروع رهينة بيد إيران وحدها.
2. بحث عن شركاء جدد: ربما تحاول الهند إشراك روسيا أو دول أوروبية لخلق مظلة سياسية تحمي المشروع، لكن هذا الخيار يظل محفوفاً بالمخاطر.
3. مراهنة على تغيير في واشنطن: هناك من يرى أن نيودلهي قد تراهن على تغير في الإدارة الأمريكية أو تعديل في سياستها تجاه إيران، وهو رهان غير مضمون.
4. تعزيز البدائل الإقليمية: بعض الخبراء يقترحون أن تركّز الهند على تطوير موانئها الخاصة أو التعاون مع دول مثل عمان لتعويض خسارة تشابهار.
الخلاصة: درس قاسٍ لنيودلهي
أثبتت أزمة تشابهار أن الاستقلال الاستراتيجي لا يمكن بناؤه على إعفاءات مستعارة. فبينما حاولت نيودلهي أن تلعب على جميع أطراف رقعة الشطرنج التعاون مع واشنطن،
الانفتاح على طهران، منافسة بكين وإسلام آباد – انتهى بها الأمر إلى خسارة موقعها على الرقعة نفسها.
تشابهار، الذي كان يُنظر إليه كرمز لصعود الهند الإقليمي، بات اليوم شاهداً على حدود هذا الصعود، وعلى مخاطر الاعتماد المفرط على حسابات القوى الكبرى.
وبينما يواصل ميناء جوادر تقدمه، تجد نيودلهي نفسها مطالبة بإعادة صياغة استراتيجيتها، ليس فقط تجاه إيران، بل تجاه المنظومة الدولية برمتها.