
أثار توقيع اتفاقية الدفاع المشترك الاستراتيجي بين المملكة العربية السعودية وباكستان موجة من الاهتمام الإقليمي والدولي، إذ لم تقدم على أنها خطوة عابرة، بل كتحول نوعي في العلاقات الثنائية يعكس عمق الروابط التاريخية بين البلدين.
ورغم أن التعاون الأمني بين الرياض وإسلام آباد ليس جديدًا، فإن وضعه في إطار رسمي وملزم قانونيًا يرفع من أهميته ويجعله حدثًا محوريًا في توازن القوى بالمنطقة.
هذا التقرير يحاول تفكيك أبعاد الاتفاقية، وتحليل انعكاساتها على المستويين الإقليمي والدولي، فضلًا عن رصد آراء الخبراء والمحللين حول مستقبلها وتأثيرها على التحالفات القائمة.
خلفية تاريخية للتعاون السعودي الباكستاني
العلاقات بين السعودية وباكستان تمتد لعقود طويلة.
منذ استقلال باكستان عام 1947، لعبت المملكة دورًا بارزًا في دعمها اقتصاديًا وسياسيًا.
وفي المقابل، شارك الجيش الباكستاني في تدريب القوات السعودية وتعزيز أمنها الداخلي والخارجي.
لكن الأهم أن هناك تفاهمًا غير مكتوب منذ السبعينيات حول التزام باكستان بالدفاع عن أمن السعودية، وخاصة أمن الحرمين الشريفين.
وقد ظهر هذا جليًا خلال أزمات إقليمية عدة، مثل الحرب العراقية–الإيرانية،
حيث كان للوجود العسكري الباكستاني دور رمزي ورسالة ردع.
الاتفاقية الجديدة جاءت لتؤطر هذا التعاون التاريخي في صيغة رسمية، ما يعني أن أي تهديد يمس أحد البلدين سيعتبر تهديدًا للآخر.
دوافع توقيع الاتفاقية
الدوافع وراء توقيع هذه الاتفاقية متعددة، بالنسبة للسعودية، فهي تسعى إلى تنويع مصادر أمنها وعدم الاكتفاء بالشراكة مع الولايات المتحدة التي تراجع حضورها العسكري تدريجيًا في المنطقة.
أما بالنسبة لباكستان، فإن الاتفاقية تمنحها غطاء سياسيًا واقتصاديًا مهمًا، إضافة إلى تعزيز صورتها كقوة إسلامية نووية قادرة على حماية شركائها.
هناك أيضًا بعد رمزي، حيث تأتي الاتفاقية في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط تزايد التهديدات غير التقليدية، من الطائرات المسيّرة إلى الهجمات السيبرانية، مما يجعل التعاون الدفاعي أكثر إلحاحًا.
البعد الإقليمي: رسائل متعددة
على المستوى الإقليمي، تُوجّه الاتفاقية رسائل إلى عدة أطراف.
أولًا، إيران التي تمثل المنافس الإقليمي الأبرز للسعودية. فرغم محاولات التهدئة عبر الوساطة الصينية، فإن الخلافات الجوهرية بين البلدين حول النفوذ في اليمن والعراق وسوريا لم تحل بعد.
وجود التزام دفاعي سعودي باكستاني يزيد من ثقل الرياض في مواجهة أي ضغوط إيرانية.
ثانيًا، الهند التي تعدّ الخصم التقليدي لباكستان. ورغم أن العلاقات السعودية–الهندية شهدت تطورًا اقتصاديًا في السنوات الأخيرة، إلا أن الاتفاقية قد تعيد الحسابات الهندية، وتجعل أي توتر مع باكستان مرتبطًا بشكل غير مباشر بأمن السعودية.
ثالثًا، دول الخليج الأخرى التي قد تنظر إلى الاتفاقية باعتبارها نموذجًا يمكن البناء عليه، خاصة مع وجود مشاريع دفاعية مشتركة بين السعودية والإمارات من جهة، وباكستان من جهة أخرى
الانعكاسات على توازن القوى الدولي
دوليًا، تثير الاتفاقية تساؤلات في العواصم الغربية. فمن جهة، لا تزال الولايات المتحدة الحليف الدفاعي الأول للمملكة، وتملك قواعد عسكرية في الخليج.
ومن جهة أخرى، فإن دخول باكستان كقوة نووية إسلامية في معادلة الدفاع الإقليمي يعطي بعدًا جديدًا قد يقلق واشنطن ولندن.
البعض يرى أن الاتفاقية جزء من مساعي السعودية لتعزيز استقلالها الاستراتيجي في عالم يتغير بسرعة، حيث لم تعد واشنطن الضامن الوحيد للأمن.
في حين يرى آخرون أن الرياض تستخدم الاتفاقية كورقة ضغط على الغرب من أجل ضمان استمرار الدعم العسكري والتكنولوجي.
آراء الخبراء: بين الأمل والقلق
المحللون منقسمون في تقييمهم للاتفاقية.
بعض الخبراء يرون أنها تشكل نواة لتحالف أمني إسلامي جديد، خاصة إذا تم ربطها بمشروع التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب الذي تقوده السعودية منذ عام 2015.
ويرى هؤلاء أن الجمع بين القدرات المالية السعودية والخبرة النووية والعسكرية الباكستانية قد يغيّر موازين الردع في المنطقة.
في المقابل، يحذر آخرون من أن الاتفاقية قد تزيد من الاستقطاب الإقليمي، وتدفع إيران إلى تعزيز تعاونها العسكري مع روسيا أو الصين، فيما قد تدفع الهند إلى تعزيز شراكاتها مع الغرب وإسرائيل.
التأثير الاقتصادي والسياسي
لا يمكن إغفال البعد الاقتصادي للاتفاقية. فالسعودية تعدّ من أكبر الداعمين الماليين لباكستان، سواء عبر المساعدات المباشرة أو من خلال دعمها في مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي.
الاتفاقية الدفاعية قد تترجم إلى استثمارات استراتيجية في الصناعات العسكرية المشتركة، وربما مشاريع لتصنيع الأسلحة في باكستان بتمويل سعودي.
كما أنها تمنح إسلام آباد هامش مناورة أكبر أمام المؤسسات الغربية، إذ يمكنها الاعتماد على دعم الرياض في مواجهة أي ضغوط مالية أو سياسية.
مقارنة مع تحالفات أخرى
إذا قارنا الاتفاقية مع تحالفات قائمة مثل الناتو، نجد أنها تختلف من حيث الأهداف. الناتو تحالف متعدد الأطراف قائم على الدفاع الجماعي في مواجهة خصم واضح (روسيا).
بينما الاتفاقية السعودية–الباكستانية ذات طابع ثنائي، هدفها الأساسي حماية أمن المملكة وتعزيز الردع في الخليج وجنوب آسيا.
كما تختلف عن الاتفاقيات الأمريكية–الخليجية، إذ إنها لا تبنى على وجود قواعد عسكرية أمريكية، بل على شراكة بين بلدين إسلاميين يمتلكان قدرات ذاتية.
المخاطر المحتملة
رغم الإيجابيات، لا تخلو الاتفاقية من مخاطر. فمن ناحية، قد تستفز قوى إقليمية مثل إيران والهند وتؤدي إلى سباق تسلح جديد.
ومن ناحية أخرى، قد تجد باكستان نفسها عالقة بين التزاماتها تجاه السعودية وضغوط داخلية تتعلق بعلاقاتها مع إيران أو تحدياتها الاقتصادية.
هناك أيضًا مخاوف من أن تستخدم الاتفاقية كغطاء لمغامرات عسكرية غير محسوبة، مما يضع البلدين في مواجهة مباشرة مع خصوم أقوياء.
هل نحن أمام توازن قوى جديد؟
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الاتفاقية تمثل أكثر من مجرد صفقة دفاعية. إنها إعادة تموضع استراتيجي يعكس إدراك البلدين بأن العالم يتغير، وأن الاعتماد على القوى الغربية لم يعد كافيًا.
قد تكون هذه الخطوة بداية لتشكيل توازن قوى جديد في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.
حيث تدخل قوى إسلامية كبرى إلى قلب المعادلة الأمنية بدلًا من الاقتصار على الولايات المتحدة أو القوى الغربية.
اتفاقية الدفاع السعودي–الباكستاني هي بلا شك حدث تاريخي، لكنها أيضًا بداية لمسار طويل ومعقد.
ويعتمد نجاحها على قدرة الطرفين على إدارة التحديات.
وتجنب الانجرار إلى صراعات مباشرة، والاستفادة من الإمكانات المشتركة لتعزيز الأمن والاستقرار.
وبينما ينظر البعض إليها كخطوة نحو تعزيز الأمن الإسلامي الجماعي، يراها آخرون كعامل قد يفاقم التوترات في منطقة مشتعلة أصلًا.
ما هو مؤكد أن الاتفاقية ستظل محط أنظار العالم، لأنها تعكس تحولات أعمق في طبيعة التحالفات الدولية والإقليمية.