
في خطوة لافتة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وقّعت الهند وإسرائيل اتفاقية استثمار ثنائية في العاصمة نيودلهي، أعادت إلى الواجهة طبيعة العلاقة المتنامية بين البلدين رغم الانتقادات الدولية الحادة لانتهاكاتهما المستمرة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة بفلسطين وجامو وكشمير.
فقد جرى التوقيع بين وزيرة المالية الهندية نيرمالا سيتارامان ونظيرها الإسرائيلي بيزاليل سموتريتش، لتكون الاتفاقية الجديدة بديلاً عن معاهدة عام 1996 التي ألغتها الهند عام 2017.
الاتفاقية، التي تتضمن حماية متبادلة للاستثمارات وضمانات ضد المصادرة، إضافة إلى إتاحة الوصول إلى التحكيم الدولي في حال وقوع نزاعات، اعتبرها مراقبون بمثابة تعزيز للتحالف الاستراتيجي بين نيودلهي وتل أبيب في لحظة سياسية حرجة،
حيث يواجه كلا النظامين اتهامات متصاعدة بانتهاك القوانين الدولية وارتكاب انتهاكات جسيمة بحق الشعوب الخاضعة للاحتلال.
خلفية العلاقات الهندية – الإسرائيلية
منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين الهند وإسرائيل عام 1992، شهدت الروابط بين البلدين تطورًا متسارعًا. فالهند، التي كانت تقليديًا أقرب إلى القضية الفلسطينية ضمن إطار عدم الانحياز،
بدأت منذ التسعينيات تميل إلى تعزيز التعاون مع إسرائيل، خصوصًا في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والزراعة.
إسرائيل، من جانبها، وجدت في السوق الهندي الضخم فرصة ذهبية لتوسيع صادراتها من السلاح والتكنولوجيا الأمنية.
وتشير التقديرات إلى أن الهند باتت من أكبر مستوردي السلاح الإسرائيلي، حيث يشمل التعاون بين الجانبين أنظمة صواريخ ودفاع جوي وطائرات مسيرة ومعدات مراقبة متطورة.
ورغم الخلافات الدبلوماسية التي ظهرت أحيانًا نتيجة حساسية الموقف الهندي من العالم العربي، فإن الاتجاه العام ظل يتجه نحو تعميق الشراكة. الاتفاقية الاستثمارية الجديدة تأتي إذًا كحلقة إضافية في سلسلة التعاون المتصاعد بين البلدين.
تفاصيل الاتفاقية الجديدة
الاتفاقية الموقعة هذا الأسبوع في نيودلهي تشمل:
1. حماية الاستثمارات: توفير ضمانات للمستثمرين من كلا البلدين ضد المخاطر السياسية مثل التأميم أو المصادرة غير القانونية.
2. تسوية النزاعات: فتح المجال أمام اللجوء إلى هيئات التحكيم الدولية في حال نشوء نزاعات تجارية أو استثمارية.
3. ضمان المعاملة العادلة: التعهد بعدم التمييز في معاملة الاستثمارات الأجنبية.
4. تشجيع التعاون الاقتصادي: تعزيز التبادل التجاري، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، الزراعة الحديثة، والطاقة.
ويرى الخبراء أن هذه البنود تشكل رسالة واضحة للمستثمرين بأن العلاقات الاقتصادية بين الهند وإسرائيل تدخل مرحلة أكثر استقرارًا، بعد سنوات من التذبذب إثر إلغاء معاهدة 1996 من قبل نيودلهي عام 2017.
السياق السياسي والحقوقي
تزامن توقيع الاتفاقية مع تصاعد الانتقادات الدولية لكلا النظامين. ففي فلسطين، تستمر إسرائيل في فرض سياسات استيطانية توسعية وشن حملات عسكرية دامية على قطاع غزة، الأمر الذي أثار إدانات واسعة من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان.
أما الهند، فتواجه اتهامات خطيرة بانتهاك حقوق الإنسان في جامو وكشمير بعد إلغاء الوضع الخاص للولاية عام 2019، وفرضها إجراءات أمنية مشددة وقيودًا على الحريات.
يرى محللون أن توقيع اتفاقية الاستثمار في هذا التوقيت ليس مجرد خطوة اقتصادية، بل يحمل بعدًا سياسيًا ورسالة تحدٍ للانتقادات الدولية.
فكلا النظامين، بحسب وصف ناشطين حقوقيين، يسعيان إلى “تطبيع صورتهما عبر التحالف الاقتصادي”، في محاولة لإظهار نفسيهما كدولتين صاعدتين تتجاوزان الضغوط الحقوقية.
ردود الفعل الحقوقية
قوبلت الاتفاقية بانتقادات واسعة من قبل منظمات حقوق الإنسان، التي رأت فيها مثالًا على “تحالف الأنظمة القمعية”. فقد أكد ناشطون أن “وحشية الهند في كشمير” و”فظائع إسرائيل في فلسطين” جعلت منهما نظامين منبوذين في نظر الشعوب المضطهدة.
وأشار بيان صادر عن إحدى المنظمات الكشميرية إلى أن “الاتفاق الأخير يثبت كيف يتحالف الظالمون مع بعضهم البعض لتبادل المنافع، بينما يعاني الملايين تحت نير الاحتلال والاستبداد”.
وفي السياق ذاته، وصفت منظمات فلسطينية الاتفاق بأنه “إضفاء شرعية على سياسات الفصل العنصري والاستيطان”، مؤكدة أن أي تعاون اقتصادي مع إسرائيل “يخدم آلة الاحتلال ويطيل أمده”.
المصالح الاقتصادية المشتركة
من الناحية الاقتصادية، تسعى الهند للاستفادة من التكنولوجيا الإسرائيلية المتقدمة في مجالات مثل الزراعة الذكية، إدارة المياه، والأمن السيبراني.
في المقابل، ترى إسرائيل في السوق الهندي مجالًا واسعًا لتوسيع استثماراتها وتصدير منتجاتها، خصوصًا في قطاع الدفاع.
تشير الأرقام إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين تجاوز 7 مليارات دولار في عام 2024، مع توقعات بارتفاعه بعد توقيع الاتفاقية الجديدة. كما أن الاستثمارات المتبادلة ستعزز التعاون في مجالات الطاقة المتجددة والتكنولوجيا المالية، وهو ما تسعى إليه نيودلهي في إطار خطتها لتقليل الاعتماد على الصين والغرب.
الأبعاد الاستراتيجية
بعيدًا عن الاقتصاد، يقرأ خبراء هذه الخطوة في إطار تحالف استراتيجي أوسع. فكلا البلدين يواجهان تهديدات أمنية متشابهة ويقدمان نفسيهما كحلفاء في “مكافحة الإرهاب”.
كما أن التقارب بينهما يعكس توجهًا مشتركًا للتموضع في النظام الدولي الجديد الذي يتسم بتعدد الأقطاب.
الهند، التي تحاول لعب دور قيادي في جنوب آسيا، ترى في إسرائيل شريكًا يزودها بالتكنولوجيا الأمنية المتقدمة التي تحتاجها في صراعاتها الحدودية، خصوصًا مع باكستان والصين. أما إسرائيل، فترى في الهند داعمًا قويًا في المحافل الدولية، خاصة مع تنامي الضغوط الغربية عليها بسبب حربها في فلسطين.
المجتمع الدولي بين الصمت والانتقاد
ورغم الانتقادات الحقوقية، فإن رد الفعل الدولي الرسمي كان محدودًا. يرجع ذلك إلى مصالح كبرى القوى الاقتصادية في الحفاظ على علاقات وثيقة مع كل من الهند وإسرائيل. فالهند تمثل سوقًا ضخمًا يتجاوز 1.4 مليار نسمة، بينما تعد إسرائيل لاعبًا محوريًا في التكنولوجيا والأمن.
ومع ذلك، أعربت بعض المنظمات الدولية غير الحكومية عن قلقها من أن “التحالفات الاقتصادية مع أنظمة متهمة بالاستعمار والقمع قد تشجع على مزيد من الانتهاكات”.
تُظهر اتفاقية الاستثمار الجديدة بين الهند وإسرائيل أن الاقتصاد والسياسة متداخلان بشكل لا يمكن فصله، وأن المصالح الاستراتيجية كثيرًا ما تتفوق على الاعتبارات الحقوقية.
فبينما تسعى نيودلهي وتل أبيب إلى تعزيز شراكتهما وتقديم نفسيهما كقوتين صاعدتين في النظام الدولي، لا تزال صورتهما مشوهة بفعل سياساتهما في كشمير وفلسطين.
وبينما يتساءل الناشطون عما إذا كان المجتمع الدولي سيواصل الصمت تجاه “تحالف الأنظمة القمعية”، يرى آخرون أن الشعوب المضطهدة ستظل ترفع صوتها وتذكّر العالم بأن الاستثمارات والتحالفات لا يمكن أن تغطي على واقع الاحتلال والاستبداد.