
تُعدّ كشمير واحدة من أكثر المناطق سخونة في جنوب آسيا، ومسرحاً لصراع جيوسياسي مستمر منذ أكثر من سبعة عقود.
هذه البقعة الجبلية الساحرة التي يطلق عليها الكثيرون “جنة الأرض” تحوّلت بفعل السياسة والحروب إلى جرح مفتوح لا يندمل، بين أطماع إقليمية متشابكة وصراع طويل بين الهند وباكستان، وبدرجة أقل الصين.
فما إن تهدأ نيران الأزمة حتى تشتعل من جديد، لتؤكد أن كشمير ليست مجرد قضية حدودية، بل عقدة تاريخية تمثل قلب التوترات في جنوب آسيا.
الجذور التاريخية للنزاع
بدأت مأساة كشمير مع تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947، عندما انسحبت بريطانيا وأُعلنت ولادة دولتين جديدتين: الهند ذات الأغلبية الهندوسية وباكستان ذات الأغلبية المسلمة.
كان من المفترض أن تنضم الولايات الأميرية البالغ عددها أكثر من 560 إمارة إلى إحدى الدولتين وفقاً لتركيبة سكانها الجغرافية والديموغرافية.
لكن ولاية جامو وكشمير، ذات الأغلبية المسلمة ويحكمها أمير هندوسي (المهراجا هاري سينغ)، اختارت موقفاً غامضاً، مما فتح الباب أمام صراع دموي.
اندلعت الحرب الأولى بين الهند وباكستان عام 1947، وأفضت إلى تقسيم الإقليم بشكل غير رسمي، بحيث سيطرت باكستان على نحو ثلث أراضيه (المعروفة اليوم بـ “آزاد كشمير” و”غيلغت بلتستان”)، بينما بقي الثلثان الآخران تحت سيطرة الهند.
ومنذ ذلك الوقت، تحوّلت كشمير إلى محور ثلاث حروب رئيسية (1947، 1965، 1971)، وأزمات متكررة كادت أن تشعل حرباً نووية.
البعد الجغرافي والاستراتيجي
تكمن أهمية كشمير في موقعها الجغرافي الفريد، إذ تحدها أربع قوى كبرى: الهند، باكستان، الصين وأفغانستان.
هذه البقعة الجبلية تضم روافد مائية استراتيجية تغذي أنهار الهند وباكستان على حد سواء، ما يجعلها مصدراً حيوياً للمياه والزراعة. كما أن قممها الثلجية ووديانها الخضراء جعلتها مطمعاً سياحياً واقتصادياً.
لكن الأهم من ذلك، أن كشمير تمثل عقدة استراتيجية في الصراع الهندي–الباكستاني. بالنسبة لإسلام آباد، تُعدّ كشمير قضية هوية وحق تقرير مصير لشعب مسلم يرزح تحت حكم الهند.
أما بالنسبة لنيودلهي، فالإقليم يشكل جزءاً لا يتجزأ من “الهند العلمانية”، وأي تنازل عنه سيُفسَّر كهزيمة سياسية وسيادة ناقصة. أما الصين، فقد دخلت على خط النزاع منذ خمسينيات القرن الماضي، حين سيطرت على إقليم “أكساي تشين”، لتصبح طرفاً ثالثاً في المعادلة.
التطورات الحديثة
في أغسطس 2019، أقدمت الحكومة الهندية بقيادة حزب “بهاراتيا جاناتا” القومي على إلغاء المادة 370 من الدستور الهندي، التي كانت تمنح إقليم جامو وكشمير وضعاً خاصاً من الحكم الذاتي.
هذا القرار أحدث زلزالاً سياسياً في المنطقة، إذ اعتبرته باكستان خرقاً لقرارات الأمم المتحدة وانتهاكاً لحقوق الشعب الكشميري،
بينما رأت فيه الهند خطوة لتكريس سيادتها الكاملة على الإقليم.
منذ ذلك الحين، شهدت كشمير تصعيداً أمنياً واسعاً، مع فرض قيود على الإنترنت والاتصالات، وانتشار أمني كثيف، واندلاع مواجهات متفرقة بين الجيش الهندي ومسلحين محليين.
كما ارتفعت نبرة الخطاب السياسي بين إسلام آباد ونيودلهي، ما أعاد شبح الحرب إلى الواجهة.
كشمير بين الأطماع الدولية
لا يمكن النظر إلى كشمير باعتبارها قضية هندية–باكستانية فقط. القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة، روسيا، والصين، إضافة إلى دول إسلامية مؤثرة مثل تركيا والسعودية، تتابع الملف بدقة نظراً لتأثيراته المباشرة على الأمن الدولي.
الولايات المتحدة غالباً ما لعبت دور الوسيط غير المباشر، إذ تحاول الموازنة بين تحالفها الاستراتيجي مع الهند، وعلاقاتها الوثيقة مع باكستان، خاصة في ملفات الإرهاب وأفغانستان.
الصين ترى في كشمير امتداداً لنفوذها الاستراتيجي عبر “ممر الصين–باكستان الاقتصادي”، ولذلك تدعم إسلام آباد في المحافل الدولية، لكنها حذرة من الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع الهند.
روسيا تميل تاريخياً إلى دعم الهند، لكنها في السنوات الأخيرة حاولت تبني خطاب أكثر توازناً بسبب علاقاتها المتنامية مع باكستان.
أما الدول الإسلامية، فبينما ترفع شعارات التضامن مع كشمير، إلا أن مصالحها الاقتصادية والسياسية مع الهند جعلت مواقفها في كثير من الأحيان حذرة أو رمزية.
الشعب الكشميري: الضحية الدائمة
وسط هذا الصراع الجيوسياسي، يبقى الشعب الكشميري هو الخاسر الأكبر. فمنذ عقود، يعيش سكان الإقليم حالة من العسكرة الدائمة، حيث يُعدّ من أكثر المناطق عسكرة في العالم بوجود مئات الآلاف من الجنود.
ووفق تقارير حقوقية، يعاني المدنيون من انتهاكات واسعة تشمل الاعتقالات التعسفية، الاختفاء القسري، القيود على حرية التعبير، وأحياناً الاستخدام المفرط للقوة.
إضافة إلى ذلك، فإن النزاع أضعف التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، وحرم الأجيال الشابة من الاستقرار والتعليم، ما جعل كشمير مسرحاً للبطالة واليأس والهجرة.
البعد الديني والهوية
لا يمكن إنكار أن البعد الديني يلعب دوراً أساسياً في تغذية النزاع. فبالنسبة لباكستان، تمثل كشمير رمزاً لاستكمال مشروعها كدولة للمسلمين في شبه القارة. أما الهند، خاصة في ظل صعود القومية الهندوسية،
فتعتبر أن الحفاظ على كشمير جزء من هويتها السياسية ووحدتها الترابية. هذه الثنائية جعلت من كشمير قضية وجودية للطرفين، يصعب التوصل إلى تسوية وسطية بشأنها.
السيناريوهات المستقبلية
المستقبل في كشمير يبدو مفتوحاً على عدة احتمالات:
1. استمرار الوضع الراهن: حيث تبقى خطوط السيطرة كما هي، مع مواجهات متقطعة وتصعيدات إعلامية وسياسية.
2. التصعيد العسكري: وهو سيناريو محتمل في حال حدوث عملية كبيرة عبر الحدود أو هجوم إرهابي يُتهم طرف بدعمه.
3. تسوية سياسية: رغم صعوبة هذا السيناريو حالياً، لكنه يظل مطلباً دولياً، سواء عبر حوار مباشر بين الهند وباكستان، أو بوساطة أممية.
4. تصاعد دور الصين: خاصة مع اشتداد التنافس مع الهند، ما قد يربط قضية كشمير بصراعات أوسع في آسيا.
في النهاية كشمير ليست مجرد قطعة أرض متنازع عليها، بل مرآة لصراع الهوية والسيادة والمصالح الإقليمية والدولية. ومنذ 1947 وحتى اليوم، لم يفلح الزمن في تقريب وجهات النظر بين الهند وباكستان، بل على العكس، جعل الانقسام أكثر عمقاً والتوتر أكثر خطورة.
وبينما تتبادل الحكومات الاتهامات، يبقى الشعب الكشميري عالقاً بين الأطماع، يعيش على أمل أن يأتي يوم يتحقق فيه السلام والعدالة.
الصراع في كشمير، على ما يبدو، ليس في طريقه إلى النهاية قريباً. فطالما بقيت الحسابات السياسية أكبر من الاعتبارات الإنسانية، ستظل كشمير عنواناً لصراع لا ينتهي، ومفتاحاً لفهم أزمات جنوب آسيا، وربما العالم بأسره.