
في السنوات الأخيرة، شهدت الهند تصاعدًا مقلقًا في وتيرة الانتهاكات التي تستهدف المسلمين عمومًا، والنساء المسلمات على وجه الخصوص، في ظل مناخ سياسي يتسم بتنامي الخطاب القومي الإقصائي وتراجع الضمانات العملية للتعددية الدينية.
ولم تعد هذه الانتهاكات مجرد وقائع معزولة، بل باتت تعكس نمطًا متكررًا تُستخدم فيه أدوات الدولة والخطاب الرسمي لإعادة تعريف المواطنة على أسس دينية وثقافية ضيقة.
في هذا السياق، تحوّل الجسد المسلم، ولا سيما جسد المرأة، إلى ساحة صراع رمزية تُمارَس عليها السلطة باسم النظام العام أو الهوية الوطنية. فبدل أن تكون المرأة مواطنة كاملة الحقوق، يجري التعامل معها كرمز لهوية “مرفوضة” ينبغي ضبطها أو إعادة تشكيلها.
ويُعد الحجاب، باعتباره مظهرًا دينيًا واضحًا، أحد أبرز الأهداف في هذا الصراع، حيث يُقدَّم بوصفه إشكالًا أمنيًا أو اجتماعيًا، بينما يُنتهك في الواقع حق أساسي تكفله القوانين الوطنية والمواثيق الدولية.
من حظر الحجاب في المؤسسات التعليمية بولاية كارناتاكا، إلى الممارسات المهينة التي تتعرض لها النساء عند نقاط التفتيش في إقليم جامو وكشمير، وصولًا إلى الخطاب الرسمي الذي يشيطن المظاهر الدينية الإسلامية، تتشكل صورة نمطية تُجرّد المرأة المسلمة من حقها في الاختيار والكرامة.
هذه السياسات والممارسات لا يمكن فصلها عن سياق أوسع من التمييز، يشمل قوانين المواطنة، والتضييق على دور العبادة، وتطبيع العنف الرمزي والمؤسسي ضد الأقليات الدينية.
حادثة بيهار: نزع الحجاب كرسالة سياسية وإهانة علنية
ضمن هذا السياق المتوتر، جاءت حادثة إجبار طبيبة مسلمة على خلع حجابها خلال فعالية رسمية في ولاية بيهار لتكشف عمق الأزمة.
فقد أثار قيام رئيس وزراء الولاية، نيتيش كومار، بنزع حجاب الطبيبة بالقوة أمام الحضور ووسائل الإعلام موجة غضب واسعة في الأوساط السياسية والحقوقية داخل الهند وخارجها.
واعتُبرت الواقعة انتهاكًا صارخًا للحقوق الدستورية واعتداءً علنيًا على كرامة المرأة وحرية المعتقد. ولم يُنظر إلى الحادث بوصفه تصرفًا فرديًا عابرًا، بل كرسالة سياسية خطيرة تحمل دلالات عميقة حول موقع المرأة المسلمة في الفضاء العام الهندي.
فالتعامل مع الطبيبة، وهي موظفة حكومية تمثل نموذجًا للتعليم والخدمة العامة، جرى على أساس أن جسدها قابل للإخضاع، لا باعتبارها مواطنة لها حقوق مصونة.
قادة سياسيون ونشطاء حقوق الإنسان، خصوصًا في كشمير، كانوا في طليعة المدينين لهذا الفعل. ونقلت خدمة كشمير الإعلامية عن النائب في حزب باراتي الشيوعي الهندي (الماركسي) من دائرة كولغام، إم واي تاريغامي، قوله إن ما حدث “يستحق إدانة قاطعة، لأنه ينتهك الحرية الدينية والكرامة الشخصية ويتعارض مع روح الديمقراطية والدستور الهندي”.
وأضاف أن الدولة لا تملك أي سلطة أخلاقية أو قانونية للتدخل في الممارسات الدينية الشخصية للمواطنين.
بدوره، وصف عمران رضا أنصاري، رئيس رابطة الشيعة في جامو وكشمير، الحادثة بأنها “نزع قسري للحجاب على خشبة المسرح”، معتبرًا إياها سابقة خطيرة. وأكد أن ما جرى لا يمكن تبريره تحت أي ظرف، لأنه يمس حقوقًا دستورية أساسية تشمل الحرية الدينية والكرامة الإنسانية والتعايش السلمي.
ردود الفعل الحقوقية والدولية: صمت مقلق ومعايير مزدوجة
منظمات إسلامية في الهند رأت في الحادثة جزءًا من نمط أوسع من التضييق على الهوية الإسلامية. فقد أصدرت عدة هيئات بيانات مشتركة أكدت فيها أن الحجاب خيار ديني وشخصي، وأن المساس به يعكس نزعة إقصائية تتناقض مع التعددية التي قامت عليها الدولة الهندية.
كما حذرت من أن الصمت الرسمي قد يشجع على تكرار انتهاكات مماثلة ضد النساء المسلمات.
أما المنظمات الحقوقية، فقد ركزت على البعد القانوني والإنساني للواقعة. وأشارت إلى أن الدستور الهندي، ولا سيما المواد 14 و15 و21 و25، يكفل المساواة وحرية المعتقد والحق في العيش بكرامة.
وأكدت أن ما حدث يمثل انتهاكًا مباشرًا لهذه المواد، ويقوض الثقة في مؤسسات الدولة بوصفها حامية للحقوق لا منتهكة لها.
الناشطات النسويات داخل الهند وخارجها عبّرن بدورهن عن قلق متزايد من استهداف جسد المرأة المسلمة بوصفه ساحة للصراع السياسي. واعتبرن أن إجبار امرأة على خلع حجابها يُعد شكلًا من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، حتى في غياب القوة الجسدية المباشرة.
وشددن على أن مفهوم “تحرير المرأة” لا يمكن أن يُستخدم ذريعة لإجبارها على التخلي عن قناعاتها الدينية.
في كشمير، ربطت ناشطات الحادثة بتجارب يومية من الإذلال والتفتيش القسري عند نقاط التفتيش، مؤكدات أن نزع الحجاب، سواء في الشارع أو على المنصات الرسمية، يحمل المعنى ذاته: تجريد المرأة من إنسانيتها وتحويل جسدها إلى أداة للسيطرة.
دوليًا، دعت منظمات حقوقية أممية إلى التحقيق في الحادثة ومحاسبة المسؤولين عنها، مذكّرة بأن الهند وقّعت على اتفاقيات دولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تحظر التمييز على أساس الدين وتلزم الدول بحماية حرية المعتقد.
ومع ذلك، سُجل غياب مواقف حازمة من حكومات غربية ومنظمات دولية كبرى، ما اعتبره ناشطون دليلًا على الكيل بمكيالين في قضايا حقوق المرأة.
في الختام، يؤكد مراقبون أن قضية الطبيبة المسلمة في بيهار ليست حادثًا فرديًا، بل اختبار حقيقي لالتزام الهند بقيمها الدستورية. فدولة تسمح بإهانة امرأة علنًا بسبب معتقدها الديني تُعرّض نسيجها الاجتماعي للخطر، وتدفع ثمن ذلك على المدى الطويل في صورة انقسام وفقدان للثقة والعدالة.



