مقالات

الإبادة الجماعية المنسية: مذبحة جامو عام 1947

مهر النساء

قصة جامو عام 1947 ليست فوضى عفوية، بل خطة شريرة صُممت قبل شهور من التقسيم. خطة لإبادة المسلمين من جامو وتهيئة الظروف للحاكم الهندوسي، مهراجا هاري سينغ، لضم جامو وكشمير إلى الهند دون موافقة الشعب الكشميري.

لم تبدأ المذبحة في أكتوبر كما يقال، بل في سبتمبر 1947، حين بدأت قوات المهراجا والجماعات القومية الهندوسية بتنظيم هجمات على القرى المسلمة. وبحلول ديسمبر، كان أكثر من مئتي ألف مسلم قد قُتلوا،

وهُجّر نصف مليون إلى باكستان. كانت هذه أول إبادة جماعية بعد الحرب العالمية الثانية، وغيّرت التركيبة السكانية لجامو إلى الأبد.

كانت جامو مقاطعة ذات أغلبية مسلمة. من أصل أربعة ملايين نسمة، كان أكثر من 3.2 مليون مسلم. حكمت المنطقة سلالة دوجرا الهندوسية، الموالية للبريطانيين ثم للهند.

وعندما غادر البريطانيون في أغسطس 1947، رغب معظم المسلمين في الانضمام إلى باكستان، لكن المهراجا ومستشاريه الهندوس كانت لديهم خطط مختلفة.

كانوا يعلمون أن دولة ذات أغلبية مسلمة ستختار باكستان، فبدأوا بالتخطيط لتغيير الواقع الديموغرافي.

أطلق حكام دوجرا ومنظمة آر إس إس ومنظمة هندو ماهاسابها حملة منظمة لتقليل عدد المسلمين. وُزعت الأسلحة على الهندوس والسيخ، ونُزع سلاح الكشميريين، وجُلب لاجئون غير مسلمين من البنجاب وأُسكنوا في مناطق مسلمة.

في سبتمبر، ظهرت أولى بوادر العنف الممنهج في بونش وريسي، حيث بدأت قوات دوجرا ومتطوعو آر إس إس بمهاجمة القرى المسلمة.

أحرقوا المنازل، ونهبوا الممتلكات، وقتلوا السكان بلا رحمة. وبحلول أكتوبر، امتدت المذبحة إلى كامل المقاطعة، من كاثوا إلى أخنور، ومن سامبا إلى مدينة جامو.

وقعت أسوأ المجازر بين 20 أكتوبر و9 نوفمبر 1947. قُتل نحو 70 ألف مسلم في كاثوا وسامبا وأخنور، و40 ألفاً في مدينة جامو وحدها. أُبيدت عائلات بأكملها، واغتُصبت النساء واختُطف الأطفال.

أُخبر آلاف المسلمين بأنهم سيُنقلون بأمان إلى باكستان، لكن القوافل تحولت إلى مصائد موت. نقلهم جنود دوجرا في شاحنات إلى “أماكن آمنة”، ثم ذُبحوا في تشاثا وماكوال. وقف الجيش مكتوف الأيدي، بل شارك أحياناً في القتل.

وصف الصحفي البريطاني إيان ستيفنز، رئيس تحرير صحيفة “ذا ستيتسمان” آنذاك، ما حدث بأنه “وحشية ممنهجة”، وقدّر أن نصف مليون مسلم اختفوا أو قُتلوا. في 10 أغسطس 1948،

ذكرت صحيفة “ذا تايمز” اللندنية أن عدد القتلى بلغ 237 ألفاً، بينما أشارت التقديرات الباكستانية إلى نحو 600 ألف قتيل. حتى الصحفي الهندي فيد باسين أكد أن أكثر من مئة ألف مسلم قُتلوا، وأن مئات القرى اختفت من الوجود.

قبل المذبحة، كان المسلمون يشكلون ثلثي سكان جامو، أما اليوم فهم لا يتجاوزون الثلث. لم يكن هذا التغيير صدفة، بل هدفاً واضحاً ضمن خطة منظمة. لم يكن بإمكان حكام دوجرا تنفيذ هذه العملية الواسعة بمفردهم، فقد حظوا بمساعدة من منظمات قومية هندوسية أرادت أن تكون جامو “وطنًا هندوسيًا”.

زوّد جيش دوجرا الهندوس والسيخ بالأسلحة، ونفذت الحشود عمليات القتل، فيما أتلفت إدارة المهراجا سجلات المسلمين وصادرت أراضيهم.

وأعادت توطين غير المسلمين مكانهم. حتى بعد انتهاء المجازر، استمر الإرهاب، وتعرض الناجون للمضايقة والمصادرة والتهجير.

بحلول نهاية عام 1947، فرّ أكثر من نصف مليون مسلم إلى باكستان، وصلوا إلى سيالكوت وغوجرانوالا ولاهور بلا شيء سوى الملابس على أجسادهم. فقد الكثير منهم عائلاتهم وحملوا معهم قصص الخيانة، وكيف تحول الجنود الذين وعدوهم بالحماية إلى جلادين.

في مخيمات اللاجئين، روى الناجون قصصاً عن اغتصاب النساء، وإلقاء الأطفال في النيران، وتدمير القرى في ليلة واحدة. لم تكن هذه حوادث فردية، بل حملة تطهير عرقي مدعومة من الدولة. حققت المذبحة ما أراده المهراجا،

فتحولت الأغلبية المسلمة إلى أقلية، وعندما انضم هاري سينغ إلى الهند في أكتوبر 1947، كانت جامو قد “طُهِّرت” بالفعل.

ورغم هول المأساة، لم يبدِ العالم أي اهتمام. لم تُجرِ أي لجنة دولية تحقيقاً، ولم يُحاكم أي ضابط، ولم تعترف أي جهة هندية بأنها إبادة جماعية. مُحي الضحايا من الذاكرة، وتحولت قصتهم إلى مجرد إحصاءات في الأرشيف.

لم تكن مذبحة جامو مجرد حلقة عنف، بل كانت الأساس الذي بُنيت عليه السيطرة الهندية على الإقليم. غيّرت الديموغرافيا، وأسكتت الصوت السياسي للمسلمين، وأرست نمطاً من التلاعب السكاني ما زال مستمراً حتى اليوم.

إن إحياء ذكرى جامو ليس نبشاً للجراح، بل استعادة للحقيقة. ما حدث في سبتمبر 1947 كان إبادة جماعية مخططة، لا “شغباً” ولا “صداماً”. أطلق الناجون على أنفسهم اسم “غونسية”، أي “القتلى”، وحملوا هذه الهوية عبر الأجيال. ولا تزال قصصهم تتردد في مستوطنات اللاجئين في باكستان حتى اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى