مقالات

السيد التيجاني يكتب: باكستان بين نعمة الأنهار ولعنة العدوان المائي  

تمثل الأنهار العمود الفقري للحضارة الباكستانية، لا سيما في إقليم البنجاب الذي اشتُق اسمه من “الأنهار الخمسة”. هذه الأنهار لم تكن مجرد منابع للمياه، بل شكلت أساس الزراعة والاقتصاد والثقافة عبر القرون.

غير أن هذه النعمة تحولت في الأسابيع الأخيرة إلى أداة دمار، حيث شهدت باكستان فيضانات مدمرة اجتاحت وسط وجنوب البنجاب، وأغرقت ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية، وشردت مئات الآلاف من المواطنين.

الفيضانات: كارثة طبيعية أم سلاح سياسي؟

رغم أن التغير المناخي وتزايد الأمطار الموسمية يلعبان دورًا في تكرار هذه الكوارث، فإن البعد الأخطر يكمن في “العدوان المائي الهندي”.

الهند، عبر إطلاقها المفاجئ لكميات هائلة من المياه دون إخطار مسبق، لم تُضاعف حجم الكارثة فحسب، بل استخدمت المياه كسلاح استراتيجي لإضعاف الاقتصاد الباكستاني القائم على الزراعة.

الالتزامات الدولية ومعاهدة السند

تعود جذور الأزمة إلى معاهدة مياه السند الموقعة عام 1960 برعاية البنك الدولي، والتي وزعت الأنهار بين الدولتين.

ورغم أن المعاهدة منحت الهند السيطرة على رافي وسوتليج وبياس، فقد نصت على إدارة التدفقات بما لا يلحق الضرر بباكستان. إلا أن نيودلهي تجاهلت مرارًا “روح الاتفاق”، مستخدمة الفيضانات الموسمية كغطاء لتصرفات لا يمكن وصفها إلا بأنها “حرب مائية صامتة”.

كارتاربور: البُعد الطائفي في الاستراتيجية الهندية

الأمر لم يتوقف عند حد الإضرار بالزراعة والاقتصاد، بل امتد إلى البُعد الديني. إطلاق المياه قرب ممر كارتاربور – أحد أقدس المزارات لدى السيخ – لم يكن مصادفة.

الهدف الواضح هو تقويض صورة باكستان أمام المجتمع السيخي وتحريضه ضدها. هذه الخطوة تعكس استراتيجية هندية مزدوجة: الضغط على باكستان من جهة، وتشويه صورتها أمام الأقليات الدينية من جهة أخرى.

الجيش الباكستاني: ملاذ أخير

مرة أخرى، أثبت الجيش الباكستاني أنه ليس فقط مؤسسة دفاعية، بل ركيزة للاستقرار الوطني. من خلال عمليات إنقاذ سريعة، نجح في حماية حياة المدنيين والمقدسات السيخية على حد سواء.

ورغم ذلك، فإن الاعتماد المفرط على الجيش في أزمات داخلية يكشف عن هشاشة المؤسسات المدنية وضعف بنيتها التحتية.

حرب المياه: التحدي القادم

أثبتت الأزمة أن مستقبل الصراع بين الهند وباكستان قد لا يُحسم بالأسلحة النووية أو التقليدية، بل عبر السيطرة على الموارد المائية.

“حروب المياه” لم تعد مجرد سيناريو نظري، بل واقع يتجسد في كل موسم أمطار. وإذا لم تتبنَّ باكستان سياسة مائية شاملة، فإنها ستظل عرضة لمثل هذه الهجمات الناعمة التي تفتك بالاقتصاد والمجتمع على المدى الطويل.

الحاجة إلى استراتيجية وطنية ودبلوماسية

لمواجهة هذا التحدي، تحتاج باكستان إلى رؤية متعددة الأبعاد:

بنية تحتية: تسريع بناء السدود والخزانات والحواجز.

دبلوماسية دولية: تدويل قضية “العدوان المائي” عبر محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة.

مؤسسات مدنية قوية: تعزيز قدرات الدفاع المدني وتزويدها بالتقنيات الحديثة لتقليل الاعتماد على الجيش.

وعي مجتمعي: تدريب المجتمعات الريفية على الاستجابة للكوارث لتقليل الخسائر البشرية.

الفيضانات الأخيرة لم تكن مجرد ظاهرة طبيعية، بل كشفت بجلاء عن تحول المياه إلى أداة جيوسياسية في الصراع الهندي–الباكستاني.

وفي حين كسب الجيش الباكستاني قلوب المواطنين ببطولاته، يبقى السؤال الأهم: هل ستنجح باكستان في تحويل الأزمة إلى فرصة لبناء سياسة مائية شاملة تحمي مستقبلها؟ أم ستظل عرضة لابتزاز هيدرولوجي يهدد أمنها القومي لعقود قادمة؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى