مقالات

السيد التيجاني يكتب: باكستان بين الجغرافيا الاقتصادية والدبلوماسية

تخيل دولة تمتلك موقعًا جغرافيًا يضعها في قلب أهم طرق التجارة العالمية، لكنها في الوقت نفسه مثقلة بأزمات داخلية وصراعات إقليمية لا تنتهي. هذه هي باكستان اليوم؛ بلد يعيش بين مطرقة التحديات وسندان الفرص.

وبينما يرى البعض أن تاريخها المليء بالتوترات قد يحكم مستقبلها، يحاول قادتها صياغة مسار جديد يجعل من الاقتصاد والسلام مفاتيح النفوذ بدل البنادق والتحالفات العسكرية.

فهل تنجح إسلام آباد في قلب المعادلة وتتحول من ساحة صراع إلى مركز عبور للتنمية والاستقرار؟

تشهد السياسة الخارجية الباكستانية في المرحلة الراهنة تحولات جذرية تعكس وعيًا متزايدًا بارتباط الأمن القومي بالاقتصاد، وتنامي الإدراك بأن الاستقرار الإقليمي لم يعد مجرد ملف سياسي أو أمني، بل هو ضرورة اقتصادية ملحّة.

وفي هذا السياق، صرّح إسحق دار، وزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء، بأن سياسة باكستان الخارجية تركز على الجغرافيا الاقتصادية والسلام،

موضحًا أن بلاده تعمل على تفعيل آليات تعاون ثلاثية مع الصين وبنغلاديش وأفغانستان، لتعزيز التنمية المشتركة وترسيخ الأمن في محيطها الحيوي.

هذا التصريح يلخص فلسفة جديدة آخذة في التشكل داخل مؤسسات الدولة الباكستانية، تقوم على فكرة أن التنمية المستدامة والتكامل الاقتصادي يمثلان ركيزة لا تقل أهمية عن القوة العسكرية أو التحالفات الأمنية التقليدية.

غير أن هذه الرؤية تواجه تحديات عديدة، سواء على مستوى البيئة الإقليمية المضطربة أو الاقتصاد المحلي المتعثر.

أولًا: الجغرافيا الاقتصادية كإطار استراتيجي

الجغرافيا الاقتصادية مفهوم يتجاوز حدود الجغرافيا السياسية، إذ يضع الموارد الطبيعية، البنية التحتية، وخطوط التجارة في قلب السياسة الخارجية. بالنسبة لباكستان، يقع هذا المفهوم في صميم التوجه الجديد لثلاثة أسباب رئيسية:

1. الموقع الجغرافي الاستراتيجي:

تقع باكستان على تقاطع طرق بين جنوب آسيا، الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى.

ميناء جوادر، ضمن مشروع الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني (CPEC)، يمثل حلقة وصل رئيسية بين الصين والخليج العربي.

2. الاعتماد على الطاقة والتجارة:

الاقتصاد الباكستاني يواجه أزمة طاقة مزمنة، ما يجعلها تبحث عن شراكات طويلة الأمد في الغاز والنفط (قطر، السعودية، إيران).

الحاجة لتسهيل التجارة عبر الممرات البرية مع أفغانستان وآسيا الوسطى.

3. التكامل مع مبادرة الحزام والطريق الصينية:

باكستان إحدى أهم المحطات في هذه المبادرة.

الربط بين الصين والشرق الأوسط عبر الأراضي الباكستانية يعزز مكانة إسلام آباد كـ”مركز عبور”.

ثانيًا: التعاون الثلاثي – الصين، أفغانستان، بنغلاديش

أعلن إسحق دار أن إسلام آباد تعتمد آليات تعاون ثلاثية تهدف لخلق شبكات تعاون إقليمي جديدة.

1. باكستان – الصين – أفغانستان:

ملف محوري نظرًا لكون أفغانستان دولة حبيسة تعتمد على باكستان في التجارة والموانئ.

الصين تسعى لضمان استقرار أفغانستان لحماية استثماراتها ضمن CPEC.

باكستان هنا تلعب دور الوسيط الذي يضمن مرور التجارة ويكبح الإرهاب العابر للحدود.

2. باكستان – الصين – بنغلاديش:

رغم الخلافات التاريخية، ترى باكستان أن فتح قنوات مع دكا يساهم في كسر العزلة الجيوسياسية التي تحاول الهند فرضها.

الصين بدورها تعتبر بنغلاديش سوقًا واعدة ومركزًا صناعيًا.

التعاون الثلاثي يتيح فرصًا للتصنيع والتجارة البحرية عبر خليج البنغال.

3. الفرصة الدبلوماسية:

هذه الصيغ الثلاثية تقلل اعتماد باكستان على تحالفاتها التقليدية (أميركا – السعودية).

تمنحها مساحة للمناورة أمام الهند والولايات المتحدة، مع تعزيز شراكتها مع بكين.

ثالثًا: السلام كأداة للتنمية

منذ عقود، ظلت العلاقة مع الهند أحد أبرز العوائق أمام النمو الاقتصادي لباكستان. النزاعات الحدودية في كشمير وحالة العداء المزمنة جعلت مليارات الدولارات تُنفق على التسلح بدل الاستثمار. إسحق دار أشار إلى أن السلام الإقليمي لم يعد ترفًا بل شرطًا للتنمية.

مع أفغانستان:

استقرار كابول ضرورة لوقف موجات اللاجئين وضمان أمن الممرات التجارية.

باكستان ترى أن إشراك طالبان في مشاريع اقتصادية قد يحفزها على الانخراط في النظام الدولي بدل العزلة.

مع بنغلاديش:

رغم الملفات التاريخية، هناك إدراك متزايد بأن المصالح الاقتصادية قد تتفوق على خلافات الماضي.

السوق البنغالية الضخمة تمثل فرصة استثمارية واعدة.

مع إيران وتركيا:

التعاون في مشروعات الطاقة (خط أنابيب إيران–باكستان).

دعم تركيا لباكستان في قضايا كشمير يمنح أنقرة مكانة خاصة.

رابعًا: التحديات البنيوية

رغم الطموحات، تواجه السياسة الخارجية الباكستانية تحديات معقدة:

1. أزمة اقتصادية داخلية:

ارتفاع التضخم، نقص الاحتياطي النقدي، وأزمة الطاقة.

هذه الأزمات تحدّ من قدرة إسلام آباد على تنفيذ مشاريع كبرى.

2. ضغوط سياسية داخلية:

الصراع بين المؤسسة العسكرية والأحزاب السياسية.

تقلب الحكومات يجعل السياسات الخارجية عرضة للتغيير السريع.

3. الهشاشة الأمنية:

استمرار هجمات جماعة “تحريك طالبان باكستان”.

التوترات الحدودية مع أفغانستان.

4. العلاقات المتوترة مع الغرب:

باكستان فقدت بعض الدعم الأميركي بعد الانسحاب من أفغانستان.

الاعتماد المفرط على الصين يثير قلق واشنطن.

خامسًا: المنظور الدبلوماسي العالمي

في ظل المنافسة الجيوسياسية بين أميركا والصين وروسيا، تجد باكستان نفسها مضطرة إلى الموازنة بين القوى الكبرى:

مع الولايات المتحدة: واشنطن لا تزال شريكًا تجاريًا رئيسيًا بالإضافة إلى ملف مكافحة الإرهاب يمنح باكستان ورقة تفاوضية.

مع الصين:

الشريك الاقتصادي الأكبر.

استثمارات بمليارات الدولارات في البنية التحتية.

مع روسيا:

بحث عن مصادر بديلة للطاقة.

فرصة لتنويع الشركاء في ظل العقوبات الغربية على موسكو.

مع دول الخليج:

السعودية والإمارات تمثلان داعمًا ماليًا أساسيًا.

العمالة الباكستانية هناك مصدر مهم للتحويلات المالية.

سادسًا: آفاق المستقبل

إذا نجحت باكستان في الجمع بين السلام الإقليمي والتكامل الاقتصادي، فإنها قد تتحول إلى مركز لوجستي وتجاري يربط بين آسيا الوسطى والخليج والهند الصينية. غير أن نجاح هذه الرؤية يتطلب:

1. إصلاحات اقتصادية عميقة تقلل الاعتماد على القروض.

2. استقرار سياسي داخلي يضمن استمرارية السياسات.

3. بناء علاقات متوازنة مع كل من واشنطن وبكين.

4. تطبيع تدريجي مع الهند، ولو في ملفات تجارية محدودة.

السياسة الخارجية الباكستانية، كما صاغها إسحق دار، تعكس تحولًا براغماتيًا من التركيز على الصراعات العسكرية إلى التركيز على الاقتصاد والتنمية المشتركة.

لكن هذا التحول يظل رهنًا بقدرة إسلام آباد على مواجهة التحديات الداخلية، وبتوازنها الدقيق بين القوى الإقليمية والعالمية.

في النهاية، يمكن القول إن باكستان أمام خيارين: إما أن تبقى أسيرة صراعات الماضي، أو أن تتحول إلى جسر استراتيجي للتجارة والسلام في جنوب آسيا.

فنجاح هذه الرؤية يتطلب إرادة سياسية صلبة، وإصلاحات اقتصادية تعزز الاعتماد على الذات، إلى جانب إدارة متوازنة للعلاقات مع القوى الكبرى. كما أن تعزيز الثقة مع الجيران عبر مشاريع السلام والتنمية سيحدد مدى قدرتها على التحول من دولة متأزمة إلى محور استقرار إقليمي. وفي المحصلة، فإن مستقبل السياسة الباكستانية مرهون بمدى قدرتها على جعل الاقتصاد أساسًا للأمن لا العكس.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى