سلايدرمقالات

السيد التيجاني يكتب: باكستان.. القوة الصاعدة أم رهينة الأزمات؟

منذ أن خرجت باكستان إلى الوجود عام 1947 بعد تقسيم شبه القارة الهندية، لم تُعامل باعتبارها مجرد دولة ناشئة تبحث عن مكانها في الخريطة الدولية، بل سرعان ما تحولت إلى طرف مؤثر في معادلات الأمن والسياسة في جنوب آسيا والعالم الإسلامي، ولاحقًا في النظام الدولي بأسره.

ويعود ذلك بالأساس إلى موقعها الجغرافي الفريد، ووزنها الديمغرافي، وقوتها العسكرية، فضلًا عن طبيعة التحديات التي أحاطت بها منذ ولادتها.

الإرث الجغرافي والجيواستراتيجي

تقع باكستان في قلب منطقة شديدة الحساسية، فهي تجاور الهند –الغريم التاريخي– وتطل على أفغانستان التي مثّلت عبر عقود ساحة صراع إقليمي ودولي، وتشترك بحدود مع إيران والصين،

كما تمتلك منفذًا بحريًا استراتيجيًا على بحر العرب. هذا الموقع جعلها جسرًا يربط جنوب آسيا بالشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ونقطة مرور طبيعية للتجارة والطاقة والمصالح العسكرية.

منذ البداية، كان وجودها مرتبطًا بموازين القوى في المنطقة، فالهند العملاقة في الشرق دفعتها إلى البحث عن تحالفات استراتيجية خارج حدودها. وفي الغرب، شكلت أفغانستان ساحة صراع متكرر أثرت على الداخل الباكستاني نفسه.

الدور الإقليمي: بين الصراع والتوازن

في الإطار الإقليمي، تبقى علاقتها مع الهند المحور الأساسي في سياساتها. النزاع حول إقليم كشمير لم يكن مجرد خلاف حدودي، بل قضية هوية وكرامة وطنية، جعلت باكستان تقدم نفسها حامية للمسلمين في الإقليم.

هذا الصراع المتجدد، والمصحوب بسباق تسلح نووي، حوّل باكستان إلى لاعب رئيسي في معادلة الأمن بجنوب آسيا.

على الجانب الآخر، ارتبطت باكستان بعلاقات إستراتيجية مع الصين. فمنذ عقود، تعاون البلدان في مجالات الدفاع والتجارة، وبلغ التعاون ذروته في مشروع الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني (CPEC)، وهو ركيزة من ركائز مبادرة “الحزام والطريق”، ويمنح الصين منفذًا مباشرًا إلى بحر العرب، ويحوّل باكستان إلى عقدة تجارية عالمية.

أما مع أفغانستان، فقد لعبت باكستان دورًا متناقضًا؛ فهي من جهة فتحت أبوابها لملايين اللاجئين الأفغان خلال الحروب، ومن جهة أخرى كانت طرفًا رئيسيًا في دعم بعض الحركات هناك، ما جعلها في قلب التفاعلات الأمنية والسياسية المرتبطة بالملف الأفغاني.

الدور الإسلامي: النووي كقوة رمزية

في العالم الإسلامي، تميّزت باكستان بصفة استثنائية، فهي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك السلاح النووي.

هذا الإنجاز لم يُنظر إليه محليًا فقط باعتباره انتصارًا على الهند، بل عُدّ إنجازًا للأمة الإسلامية كلها. لذلك كثيرًا ما حاولت باكستان أن تقدم نفسها كقوة دفاعية ورمز للقدرة الإسلامية في مواجهة الضغوط الدولية.

كما ظلت باكستان عضوًا نشطًا في منظمة التعاون الإسلامي، وتربطها علاقات وثيقة مع دول الخليج التي تشكل شريانًا حيويًا لاقتصادها من خلال العمالة الباكستانية وتحويلاتها المالية، إضافة إلى الدعم الاقتصادي والسياسي المتبادل.

الدور الدولي: بين واشنطن وبكين

على المستوى الدولي، احتلت باكستان موقعًا متقدمًا في حسابات القوى الكبرى. بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، أصبحت حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة في “الحرب على الإرهاب”. تحولت أراضيها إلى ممر للقوات والإمدادات، وساحة للعمليات العسكرية والاستخباراتية.

لكنها، في الوقت نفسه، أبقت على شراكتها الاستراتيجية مع الصين، بل وعملت على توسيعها، ما منحها قدرة على المناورة بين القطبين الكبيرين.

اليوم، تجد باكستان نفسها لاعبًا مهمًا في المعادلة الجيوسياسية الكبرى بين الولايات المتحدة والصين، حيث تسعى واشنطن إلى تقليص نفوذ بكين في المنطقة، بينما تراهن الصين على باكستان كحليف استراتيجي يضمن لها النفاذ إلى المحيط الهندي.

القوة الناعمة والمشاركة العالمية

لم يقتصر تأثير باكستان على الجانب العسكري والسياسي فحسب، بل امتد أيضًا إلى القوة الناعمة. من خلال جاليتها الكبيرة المنتشرة في الخليج وأوروبا وأمريكا الشمالية.

ومن خلال شخصياتها التي برزت عالميًا مثل العالِم عبد السلام الحائز على نوبل في الفيزياء، وملالا يوسفزاي الحائزة على نوبل للسلام، رسخت باكستان لنفسها صورة دولة ذات حضور ثقافي وفكري.

رغم كل هذا الدور، تواجه باكستان تحديات عميقة:

اقتصاد هش يعتمد بشكل كبير على المساعدات والتحويلات.

صراعات سياسية داخلية بين الأحزاب والمؤسسات العسكرية.

تحديات أمنية من الإرهاب والتطرف.

أزمات تنموية تتعلق بالصحة والتعليم والطاقة.

لكن ورغم هذه التحديات، تظل أوراق القوة بيدها كبيرة: سلاحها النووي، موقعها الجغرافي، تحالفاتها المتعددة، وسكانها الشباب الذين يشكلون مصدر قوة مستقبلية.

باختصار  إن باكستان ليست مجرد دولة إقليمية عادية، بل محور في توازنات معقدة تمتد من الخليج إلى آسيا الوسطى، ومن الهند إلى الصين والولايات المتحدة. موقعها ومكانتها النووية وعلاقاتها المتشعبة تجعلها لاعبًا لا يمكن تجاهله في أي معادلة إقليمية أو دولية.

ورغم التحديات التي تواجهها، فإنها تظل مرشحة للاستمرار كقوة صاعدة، شرط أن تنجح في إدارة الداخل بقدر ما تنجح في المناورة على الساحة الخارجية.:

التوقعات المستقبلية 

عندما ننظر إلى مستقبل باكستان، نجد أنها تقف عند لحظة مفصلية ستحدد مسارها لسنوات طويلة. فهي تمتلك موقعًا جغرافيًا حساسًا، وعددًا سكانيًا ضخمًا، وقدرة نووية تجعلها لاعبًا يصعب تجاوزه. لكن هذه المقومات وحدها لا تكفي ما لم تُحسن إدارة تحدياتها الداخلية.

إقليميًا، يظل الصراع مع الهند العنوان الأبرز في سياساتها. النزاع على كشمير يستهلك الموارد ويؤجج سباق التسلح، مما يبقي جنوب آسيا في حالة توتر مستمر. ورغم ذلك، قد تفرض الضغوط الاقتصادية والأمنية على الجانبين فتح باب الحوار ولو بخطوات بطيئة.

في المقابل، تتجه باكستان إلى تعزيز شراكتها مع الصين. فالممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني (CPEC) يعد مشروعًا استراتيجيًا قد يغيّر خريطة التجارة والطاقة في المنطقة. نجاحها في استثماره بفعالية قد يمنحها دفعة اقتصادية مهمة تخفف من أزماتها.

أما في أفغانستان، فستظل باكستان لاعبًا رئيسيًا. دورها كوسيط أو كضامن للحدود سيبقى مؤثرًا في استقرار الأوضاع هناك، خصوصًا مع استمرار التحديات الأمنية.

في العالم الإسلامي، تحتفظ باكستان برمزية خاصة كونها الدولة الإسلامية النووية الوحيدة. هذا يمنحها مكانة سياسية ودينية مميزة في المحافل الدولية. كما أن علاقاتها مع دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات وقطر، ستزداد أهمية مع حاجتها إلى الدعم الاقتصادي والاستراتيجي.

دوليًا، تواجه باكستان معادلة دقيقة. فهي تحتاج إلى الولايات المتحدة في المساعدات والتمويل، لكنها في الوقت نفسه تعتمد على الصين كشريك عسكري واقتصادي.

هذا التوازن يمنحها مساحة للحركة، لكنه يضعها أيضًا تحت ضغوط متناقضة. وفي الوقت نفسه، تبحث عن تقارب أكبر مع روسيا وتركيا، خصوصًا في مجالات الطاقة والدفاع.

ومع ذلك، تبقى نقطة الارتكاز الحقيقية داخلية. الاقتصاد الضعيف، وعدم الاستقرار السياسي، يحدّان من قوتها الخارجية. إذا استطاعت إصلاح اقتصادها واستثمار موقعها الجغرافي كممر للتجارة والطاقة، ستصبح أكثر استقلالية. أما إذا فشلت، فستضطر للاعتماد أكثر على الدعم الخارجي.

ولا يمكن إغفال عنصر الشباب. أكثر من نصف سكان باكستان شباب. إذا استُثمروا في التعليم والتكنولوجيا، قد يتحولون إلى قوة دفع هائلة. أما إذا تُركوا بلا فرص، فقد يصبحون عبئًا يثقل الدولة.

في النهاية، تبدو باكستان مقبلة على مرحلة حساسة. فهي تملك الإمكانات لتصبح قوة صاعدة، وربما جسرًا بين الشرق والغرب.

لكن نجاحها مرهون بقراراتها الداخلية وقدرتها على التوازن في بيئة دولية متغيرة. إنها تقف على مفترق طرق: إما أن تنهض كقوة إقليمية مؤثرة، أو تبقى أسيرة لأزماتها التي تكبح طموحاتها الكبرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى