
مع بداية موسم الأمطار الموسمية هذا العام، استيقظت باكستان مرة أخرى على مشهد مأساوي: أنهار متدفقة تفيض عن مجاريها، قرى غارقة، آلاف المشردين، وصور لأطفال يبحثون بين الأنقاض عن بقايا منازلهم.
لم يكن هذا المشهد جديداً على الباكستانيين، بل بات موسماً متكرراً يزرع الخوف قبل أن يزرع الغيث.
وبينما تعزو السلطات الظاهرة إلى التغيرات المناخية وضعف البنية التحتية، يذهب البعض أبعد من ذلك، ليتحدث عن “مؤامرة هندية” تُحاك عبر التحكم بمصادر المياه المشتركة.
حين يتحدث المناخ بلغة الغضب
جغرافية باكستان تجعلها من أكثر الدول عرضة للكوارث الطبيعية. فأنهار السند وروافده تجري من مرتفعات الهيمالايا وصولاً إلى بحر العرب، حاملة معها كميات هائلة من المياه الذائبة من الجليد.
ومع تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة، تتسارع ذوبان الأنهار الجليدية، وتزيد الأمطار الموسمية غزارة وحدة. هذا الخليط الطبيعي يحوّل السهول الزراعية الخصبة إلى مسطحات مائية عارمة، تقطع الطرق، وتعزل المدن، وتدمر البيوت الطينية.
في عام 2010، وصفت الأمم المتحدة فيضانات باكستان بأنها “أسوأ كارثة إنسانية في تاريخها الحديث”. واليوم، تعود الذاكرة إلى الوراء كلما غمرت المياه الحقول والقرى.
لكن هذه الكوارث، رغم طبيعتها المناخية، تجد في الداخل الباكستاني أرضاً خصبة لتتحول إلى مآسٍ متفاقمة بسبب غياب التخطيط العمراني وبنية تحتية غير قادرة على الصمود.
بين باكستان والهند.. الماء سلاح قديم
العلاقة بين باكستان والهند لم تكن يوماً مستقرة. فمنذ تقسيم شبه القارة عام 1947، ظل الماء جزءاً من معادلة الصراع. اتفاقية مياه السند لعام 1960 حاولت أن تضع قواعد واضحة لتقاسم الأنهار، إلا أن غياب الثقة بين الطرفين أبقى الباب مفتوحاً للتأويلات.
مع كل فيضان يضرب باكستان، يتعالى الصوت الشعبي والسياسي: “الهند أطلقت المياه من سدودها فجأة لتغرقنا”. بعض وسائل الإعلام تذهب إلى حد الحديث عن “حرب مائية غير معلنة”، مستشهدة بمشاريع هندية لبناء سدود على روافد نهر السند. لكن الهند من جانبها تنفي دائماً، مؤكدة أن الفيضانات تضربها هي الأخرى، وأن ما يحدث ليس سوى غضب الطبيعة.
المؤامرة: شماعة أم حقيقة؟
بين من يصدق هذه الفرضية ومن يرفضها، تبقى المسألة معلقة في فضاء السياسة. لا توجد أدلة قاطعة على أن نيودلهي تدير “مؤامرة مائية”، لكن هناك حقيقة ماثلة: غياب الشفافية في تبادل البيانات المائية بين البلدين يعزز المخاوف. ففي لحظة زيادة منسوب نهر، عدم إبلاغ الجانب الآخر قد يكون كافياً لإغراق عشرات القرى.
غير أن بعض الخبراء يشددون على أن التغير المناخي بات أقوى من أي مؤامرة محتملة. فالأرقام وحدها تكشف أن باكستان تذوب فيها الجبال الجليدية بمعدل أسرع من أي مكان آخر في العالم، ما يجعلها عرضة لكوارث حتى دون تدخل خارجي.
المواطن البسيط.. ضحية السياسة والطبيعة
في النهاية، يقف المواطن الباكستاني البسيط وحيداً في مواجهة الطوفان. الفلاح الذي يفقد أرضه كل موسم، الطفل الذي ينقطع عن مدرسته لأن الطريق غمرته المياه، والنساء اللواتي يضطررن للعيش في مخيمات الإغاثة لأشهر طويلة.
هؤلاء لا يهمهم إن كانت المياه جاءت من غيمة غاضبة أم من قرار سياسي خلف الحدود، بقدر ما يهمهم الحصول على مأوى وغذاء ودواء.
الفيضانات في باكستان، وإن كانت في جوهرها كوارث طبيعية ناتجة عن المناخ والجيولوجيا، إلا أنها تحولت إلى ملف سياسي بامتياز، تتنازعه نظريات المؤامرة والاتهامات المتبادلة.
وبينما يتجادل الساسة حول المؤامرة، تظل الحقيقة أن باكستان بحاجة ماسة إلى استراتيجيات وطنية شاملة: بناء سدود حديثة، تحسين نظام الإنذار المبكر، والتخطيط العمراني بعيد المدى.
فالمياه قد تكون حياة إذا أُديرت بحكمة، لكنها تصبح موتاً إذا تُركت لقسوة الطبيعة أو لعبة السياسة.
عندما اجتاحت مياه الفيضانات القرى الباكستانية مجدداً هذا العام، لم يتوقف النقاش فقط عند حجم الخسائر، بل تعداه إلى سؤال أكثر خطورة: هل ما يجري هو مجرد كوارث طبيعية تتكرر مع كل موسم مطير، أم أن الأمر يدخل في سياق مؤامرة مائية تستهدف باكستان؟
ولعل هذه الشكوك ليست وليدة اللحظة، بل تجد جذورها في تجارب تاريخية شهدتها دول أخرى حيث تحوّلت المياه إلى سلاح قاتل يفوق في قوته المدافع والدبابات.
حين تصبح المياه سلاحاً
في عالم السياسة والحروب، لم تكن المياه يوماً عنصراً محايداً. فمنذ العصور القديمة، لجأت جيوش إلى إغراق خصومها بفتح السدود عمداً. وفي التاريخ الحديث، هناك شواهد عديدة:
الصين 1938: خلال الحرب الصينية–اليابانية، فجّر القادة الصينيون سدود نهر “هوانغ هي” عمداً لإيقاف تقدم الجيش الياباني، فغمرت المياه مساحات هائلة وأزهقت أرواح مئات الآلاف من المدنيين.
هولندا 1944: لجأ الألمان إلى إغراق مناطق كاملة بفتح الحواجز المائية لمنع قوات الحلفاء من التقدم.
العراق 1991: بعد حرب الخليج، اتُهم نظام صدام حسين باستخدام المياه لإغراق الأهوار وتجفيفها كأداة للسيطرة على المعارضة الجنوبية.
أوكرانيا 2023: تفجير سد كاخوفكا العملاق في خضم الحرب الروسية–الأوكرانية أثار ضجة عالمية، حيث اتهم كل طرف الآخر باستخدام الفيضانات كسلاح استراتيجي.
هذه الأحداث تجعل الحديث عن “فيضانات مصطنعة” في باكستان جزءاً من سياق عالمي، حيث لم تعد الطبيعة وحدها مسؤولة عن الكوارث، بل دخلت يد الإنسان لتوجهها أحياناً ضد خصومه.
باكستان والهند: الشكوك القديمة
وسط هذا التاريخ، تبدو شكوك الباكستانيين تجاه الهند أكثر منطقية في نظر الكثيرين. فالهند تتحكم في منابع أنهار رئيسية تصب في باكستان، ومع وجود عشرات السدود ومشاريع تحويل المياه، يتوجس الباكستانيون من احتمال أن يتم استخدام هذه المنشآت للتحكم بتدفق المياه، سواء عبر حجبها في أوقات الجفاف أو إطلاقها بكثافة في مواسم الأمطار بما يضاعف آثار الفيضانات.
صحيح أن الهند تنفي دائماً، وتؤكد التزامها باتفاقية مياه السند، لكن غياب الشفافية في مشاركة المعلومات يجعل من السهل تغذية رواية “المؤامرة المائية”.
بين الحقيقة والمؤامرة
الربط بين فيضانات باكستان والفيضانات المصطنعة في بلدان أخرى يفتح باب الأسئلة:
هل هي مجرد صدفة أن تتكرر الكوارث كل عام بنفس النمط؟
هل يُعقل أن تكون الفيضانات كلها طبيعية رغم قدرة الدول الحديثة على التحكم في السدود والأنهار؟
أم أن جزءاً من المشكلة يكمن في هشاشة الداخل الباكستاني، الذي يجعل أي زيادة طبيعية في منسوب المياه تتحول إلى مأساة إنسانية.
الضحية الكبرى: المواطن
ومهما كان الجواب، يبقى الضحية الأكبر هو المواطن. في الصين 1938 كما في باكستان 2024، وفي أوكرانيا كما في هولندا، كان المدنيون دائماً من دفعوا الثمن، فقداناً في الأرواح، ودماراً في البيوت، وتشريداً في مخيمات الإغاثة.
فيضانات باكستان تبدو في ظاهرها غضباً طبيعياً مناخياً، لكنها لا تنفصل عن ذاكرة بشرية عرفت كيف تستخدم الماء كسلاح في معاركها.
وبين احتمالية “المؤامرة الهندية” أو “قصور الدولة الباكستانية”، تبقى الحقيقة أن الماء، هذا العنصر الذي يُفترض أن يكون سر الحياة، قد يتحول في أي لحظة إلى أداة موت إذا وُضع في أيدي السياسة.



