كشميرمقالات

من الذاكرة إلى الحركة: الوعي السياسي في كشمير المحتلة

د. وليد رسول

لطالما كان كبح جماح الحركة السياسية في كشمير، المتجذرة في قاعدتها الشعبية، أولوية استراتيجية قصوى للهند. منذ البداية عام ١٩٤٧، ألقت الدولة الهندية ببراعة عبء المسؤولية على حاكم دوجرا، مقدّمةً نفسها كمحرر لا محتل.

في ضربةٍ سياسيةٍ بارعة، دبرت الهند إطلاق سراح الشيخ عبد الله من السجن، وكسبت ثقته، وجذبته إلى صفوف جواهر لال نهرو.

ما بدا آنذاك تحالفًا سياسيًا، تبيّن لاحقًا أنه فخٌّ محكم، يشكّل الآن قيودًا حديديةً على الشعب الكشميري.

إن نضال كشمير للتحرر من قيود العبودية الهندية ليس قصة تمرد خطية، بل هو نسيج معقد متشابك مع التطلعات السياسية، والمقاومة الاجتماعية، والمثابرة الدينية، والمرونة الثقافية، والتحدي النفسي على مدى سبعة عقود.

فما بدأ كحركة من أجل الكرامة والهوية، تحول على مدى عقود إلى مقاومة متعددة الأبعاد.

واليوم، شهد المشهد الاستراتيجي تحولاً جذرياً.

الحركة، التي كانت تُرى في التجمعات والمنابر السياسية، أصبحت الآن حبيسة سجون الهند النائية، وخاصة سجن تيهار في دلهي.

مساحة التعبير السياسي السلمي -التي كانت تتسامح معها على مضض- أصبحت الآن في مرمى نيران الدولة الهندية.

حتى مظهر المعارضة السياسية السلمية يجرّم ويسحق تحت وطأة أجهزة الدولة. لم يعد هذا صراعًا سياسيًا تقليديًا.

إنها حربٌ مدبّرةٌ على ذاكرة شعبٍ وهويته ومستقبله.

إنها مسرحٌ للقمع، حيث تعاد كتابة السرديات، ويتلاعب بالتاريخ، ويستهدف الوعي السياسي بالمحو.

ومع ذلك، ورغم القبضة الحديدية، لا تزال روح كشمير صامدة – مُشوّهة، لكنها لم تُكسر؛ مُكمّمة، لكنها لم تستسلم.

يتطلب فهم هذا التطور مناهجَ مبتكرةً بدلاً من الاعتماد على منهجياتٍ باليةٍ خدمت الحركة في مراحلها السابقة.

لقد غيّرت استراتيجية الهند لما بعد عام ٢٠١٩ – التي اتسمت بالتآكل المنهجي للحيز السياسي، وزيادة المراقبة، والاستخدام الموجّه لأجهزة الدولة مثل وكالة التحقيقات الوطنية – المشهد السياسي.

عمليات مصادرة الممتلكات

لقد خلقت عمليات مصادرة الممتلكات، والاعتقالات بموجب قوانين صارمة مثل قانون الأمن العام وقانون منع الأنشطة غير المشروعة، وعمليات وكالة التحقيقات الوطنية، مناخًا من الخوف والحرب النفسية.

في عام 2023 وحده، صادرت وكالة التحقيقات الوطنية ممتلكات أكثر من 190 شخصًا في كشمير،

وهي خطوة ينظر إليها على نطاق واسع على أنها ترهيب سياسي واعتداء على النضال من أجل الحرية.

تاريخيًا، اتبعت الهند استراتيجية ثنائية في كشمير:

خلق انقسامات داخلية داخل الحركة،

وإفساح المجال للكيانات السياسية.

وقد أُوهمت هذه الكيانات بقدرتها على مواصلة النضال السياسي من أجل الحكم الذاتي أو حتى الاستقلال.

ومع ذلك، فقد ثبت أن هذا التكتيك وسيلة لاستيعاب المعارضة في التيار السياسي الهندي الرئيسي،

مما أدى تدريجيًا إلى إضعاف المطلب الأساسي بالحرية (آزادي).

لم يكن هذا جديدًا. فتزوير انتخابات عام ١٩٨٧، وخاصةً استهداف الجبهة الإسلامية المتحدة، مثالٌ واضح على قمع الأصوات السياسية المشروعة.

وقد أشعل هذا الحدث انتفاضةً جماهيريةً تطورت لاحقًا إلى تشكيل مؤتمر الحريات لجميع الأحزاب وانطلاق مقاومة مسلحة في التسعينيات.

منصة النضال السياسية

برز مؤتمر الحريات لجميع الأحزاب، كمنصة سياسية واسعة تمثل التطلع الجماعي لتقرير المصير.

إلا أنها واجهت أيضًا قمعًا حكوميًا، واستقطابًا، وتشرذمًا داخليًا – غالبًا ما كانت تدبّره أجهزة الاستخبارات الهندية، وفقًا لعدة باحثين وتقارير.

المسألة المطروحة ليست مجرد قمع سياسي؛ بل هي قمع منهجي لحركة تحرر جماهيرية من خلال إدارة شؤون الدولة.

يتمتع صانعو السياسات الهنود، بفضل سيطرتهم الإدارية المباشرة على الإقليم، بميزة حاسمة في فرض قواعد الاشتباك.

استراتيجيتهم ليست مادية فحسب، بل نفسية أيضًا، تهدف إلى تفكيك الوعي السياسي للأجيال القادمة.

ومع ذلك، لم تتلاشى روح المقاومة.

فعلى الرغم من آلاف عمليات القتل والسجن والاختفاء القسري، تشير الإحصائيات إلى أنه حتى في ظل العسكرة المكثفة،

مع وجود ما يقرب من 900 ألف جندي هندي متمركز في الوادي، لا تزال الرغبة في الحرية راسخة في الذاكرة الجماعية الكشميرية.

عوامل تميّز نضال كشمير

من أهم العوامل التي تميّز نضال كشمير من أجل الحرية عن الحركات الأخرى داخل الهند هو وضعه الدولي المتنازع عليه.

تقرّ قرارات الأمم المتحدة (1948، 1949) بجامو وكشمير كإقليم متنازع عليه، وباكستان طرفٌ في النزاع.

هذا البُعد الجيوسياسي، إلى جانب الدعم السياسي والدبلوماسي الباكستاني، يميّزه عن الحركات الانفصالية الأخرى.

من السمات المميزة الأخرى المادة 370، التي أقرت دستوريًا باستقلال جامو وكشمير ضمن الاتحاد الهندي.

وقد أدى إلغاؤها عام 2019 إلى تفكيك آخر ضمانة قانونية، وأدى إلى ما يصفه كثيرون بسياسة استعمارية استيطانية في المنطقة.

ومنذ ذلك الحين، تم إصدار ما يزيد على أربعة ملايين شهادة إقامة لغير المقيمين،

مما أثار مخاوف جدية بشأن التغيير الديموغرافي وتخفيف التمثيل السياسي للأغلبية المسلمة الأصلية.

والآن أصبح انتقال الوعي السياسي بين الأجيال جانباً حاسماً من جوانب المقاومة.

حركات التحرر الناجحة

يظهر التاريخ أن حركات التحرر الناجحة -سواءً في الجزائر أو فيتنام أو فلسطين- تستمر من خلال سلسلة استراتيجية متواصلة من التعليم الأيديولوجي، والحفاظ على التراث الثقافي، وأساليب المقاومة المبتكرة عبر الأجيال.

في كشمير، يتعرض هذا المسار لتهديد خطير بسبب الرقابة الحكومية، وسيطرة الدولة على المناهج الدراسية، والتعتيم الإعلامي.

في ضوء هذه التحديات، يتعين على الكشميريين -وخاصةً أولئك الذين يقعون خارج السيطرة الهندية المباشرة- تطوير نهج استراتيجي ثلاثي الأبعاد:

١) إعادة التوجه السياسي وإعادة التفكير الاستراتيجي

 ٢) المقاومة الفكرية والثقافية

 ٣) مشاركة الشتات.

وتبدو ملاحظة ابن خلدون الخالدة -بأن الدول، كالبشر، تمر بمراحل الطفولة والشباب والشيخوخة- صادقة تمامًا في سياق الهند المعاصرة.

على الرغم من صعودها الصاروخي في المجالات الاقتصادية والعسكرية، فإن الهند تكافح تناقضات داخلية عميقة:

خطوط الصدع الجامدة في التسلسلات الهرمية الطبقية، وزيادة التطرف الهندوسي، والتيارات الانفصالية في ولايات الشمال الشرقي والجنوب، ودوامة خطيرة من الاستقطاب الديني.

تآكل واجهة الديمقراطية الهندية

إن هذه الشقوق المتصاعدة، إلى جانب التدقيق الدولي المتزايد، تعمل على تآكل واجهة الديمقراطية الهندية تدريجيا ــ بغض النظر عن رفضها المتحدي للانتقادات العالمية.

وفي ظل قبضة القمع المتزايدة هذه، حيث يتم إسكات القيادة السياسية في كشمير بشكل منهجي، ويتم الرد على الأصوات السلمية بحملات قمع عقابية، يبرز نقل الوعي السياسي بين الأجيال ليس فقط كاستراتيجية، بل كضرورة وجودية.

إنها شعلةٌ يجب تمريرها – لا على عجل، بل بحرصٍ متعمّد.

قد تنجح الهند في سجن القادة، ومصادرة المنازل، وإغلاق المناصب السياسية، لكنها لا تستطيع إخماد فكرةٍ تضرب بجذورها عميقًا في تراب كشمير المُغرق بالدماء.

يتواصل النضال في حكايات الجدات الهامسة، وفي الأشعار المحفورة في دفاتر السجن، وفي عيون الأطفال الذين لا يرثون الصدمة فحسب، بل الحقيقة أيضًا.

في مواجهة تصاعد الاستبداد في الهند، يمثل هذا النقل الواعي للذاكرة السياسية والهوية شريان الحياة للقضية الكشميرية – تمرد هادئ، لا يشن بالسلاح، بل بالحكمة والإرادة وثقل الأجيال.

في رياح الوادي الهادرة، ليست الذاكرة مجرد أثر سلبي، بل هي نبض، احتجاج، وعد.

كشمير المحتلة تتنفس المقاومة، ليس فقط من خلال الشعارات، بل من خلال قصص تتناقلها الأجيال. هنا، التاريخ لا ينام، بل يمضي.

كل تهويدة أم، وكل سؤال طفل، وكل موكب جنازة، تغذّي موجةً صاعدة من الوعي.

ما يبدأ ذكرى صامتة، يتضخم تدريجيًا إلى تحدٍّ جماعي.

لا يولد الوعي السياسي في كشمير في قاعات الندوات أو البيانات؛ بل ينمو في المقابر، وينمو في حظر التجول، ويزدهر في قلوب أهلها المحاصرين.

هذه هي الرحلة – من الذاكرة إلى الحركة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى