مقالات

السيد التيجاني يكتب: القهر المُشرعن.. كشمير في قبضة العسكرة

في الوقت الذي تروج فيه الحكومة الهندية لرواية “الاستقرار والسلام” في جامو وكشمير المحتلة، يعيش ملايين الكشميريين واقعًا مغايرًا تمامًا، تسوده العسكرة الشاملة، والخوف، وانتهاكات الحقوق الإنسانية.

لا يكاد يمر يوم من دون أن تشهد هذه المنطقة المضطربة عمليات تطويق وتفتيش ومداهمات تستهدف القرى والمنازل، بزعم ملاحقة “متمردين” أو “عناصر مشبوهة”.

هذه الإجراءات، المدعومة بقوانين قمعية، تحوّلت إلى نمط حياة ينهك السكان ويحول حياتهم اليومية إلى كابوس لا ينتهي.

تصعيد ميداني وعمليات ممنهجة

شهدت الأيام الأخيرة تصعيدًا كبيرًا في النشاطات العسكرية داخل كشمير المحتلة، حيث كثفت القوات الهندية عملياتها في مناطق متعددة، أبرزها كيشوان في كشتوار، ومقاطعة بونش، وأودامبور، ودودا، وكوبوارا، وجاجوال في آر إس بورا.

عمليات التطويق والبحث نُفذت بمشاركة وحدات متعددة من الجيش الهندي، مثل قوات راشتريا رايفلز، والشرطة الاحتياطية المركزية (CRPF)، وقوات أمن الحدود، ومجموعة العمليات الخاصة (SOG).

في كيشوان، واصلت القوات الهندية عملياتها لليوم الثاني على التوالي، بزعم تعرضها لإطلاق نار أثناء تنفيذ “عملية استخباراتية”.

وفي مقاطعة بونش، تم استهداف العديد من القرى والمرتفعات، وسط أنباء عن مضايقات واسعة للسكان، وفرض قيود مشددة على الحركة، ومداهمة البيوت في ساعات متأخرة من الليل.

أما في أودامبور وبهادرواه، فقد استمرت العمليات العسكرية لأربعة أيام متتالية، بعد مقتل جندي هندي وإصابة اثنين آخرين.

وبينما لم يتم تأكيد وجود مسلحين، فإن القوات استخدمت الحادث لتبرير حصار قاسٍ شمل مئات العائلات، ما تسبب في تعطيل المدارس، والخدمات الصحية، وقطع خطوط الاتصال.

ذرائع أمنية وأهداف سياسية

تدعي السلطات الهندية أن هذه العمليات تهدف إلى “تطهير” المناطق من الجماعات المسلحة المدعومة من الخارج، حسب زعمها.

غير أن الواقع على الأرض يكشف أن هذه الحملات غالبًا ما تُبنى على معلومات استخباراتية مشكوك في صحتها، وتؤدي إلى اعتقالات تعسفية واستجوابات لا تستند إلى أي أدلة واضحة.

يرى مراقبون أن الهدف الحقيقي لهذه العمليات هو ترسيخ مناخ الخوف في نفوس الكشميريين، وتفكيك النسيج الاجتماعي عبر إذلال المدنيين، واستنزافهم نفسيًا وجسديًا.

ويُنظر إلى هذه الحملات على أنها جزء من استراتيجية أوسع لفرض تغيير ديمغرافي وثقافي في الإقليم، بعد إلغاء الوضع الخاص لكشمير في عام 2019 بموجب المادة 370.

القوانين القمعية: أدوات شرعنة الانتهاك

تعتمد القوات الهندية على منظومة من القوانين الاستثنائية التي تمنحها صلاحيات واسعة وتوفر لها الحصانة من المحاسبة، وفي مقدمتها “قانون القوات المسلحة الخاص” (AFSPA) وقانون السلامة العامة (PSA).

هذان القانونان يتيحان للجيش والشرطة توقيف أي شخص دون مذكرة قضائية، واحتجازه لفترات طويلة دون محاكمة، بل وتنفيذ عمليات قتل خارج نطاق القضاء دون التعرض للمساءلة.

وقد وثقت منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية مرارًا كيف تُستخدم هذه القوانين لتبرير الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من تعذيب وقتل واغتصاب، واحتجاز قُصّر، ومنع الوصول إلى المحامين، وتقييد حرية التعبير والتنقل.

ولعل الأخطر هو أن هذه الانتهاكات باتت تُرتكب بشكل منهجي، ضمن ثقافة الإفلات من العقاب.

الإعلام المكمم والحقائق المغيّبة

في ظل هذه الظروف القمعية، تواجه الصحافة في كشمير قيودًا مشددة، إذ تتعرض وسائل الإعلام المحلية للمراقبة والتضييق، وتُمنع من تغطية ما يجري بحرية. الصحفيون يُعتقلون،

ع وتُغلق الصحف، وتُحظر منصات إلكترونية، في محاولة لفرض سردية رسمية أحادية تنفي وجود أي مقاومة شعبية أو معاناة مدنية.

النتيجة هي غياب شبه تام للأصوات الكشميرية في الإعلام الهندي، مقابل تضخيم للدعاية الرسمية التي تصور كشمير كمنطقة “مستقرة”.

في حين أن التقارير المستقلة، إذا نُشرت، ترسم صورة مختلفة تمامًا عن واقع يتسم بالقمع المنهجي والتطهير الثقافي والاستيطان القسري.

واقع إنساني مأساوي

إن استمرار هذا الوضع لم يؤد فقط إلى تدمير البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية في الإقليم، بل ألحق أضرارًا نفسية بالغة بالسكان. فالحصار المستمر، ومداهمات المنازل، والعيش تحت أعين الجنود، جعلت من الحياة اليومية تجربة مليئة بالخوف والقلق، خصوصًا لدى النساء والأطفال.

التقارير الطبية تشير إلى زيادة معدلات اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب والانتحار بين الشباب الكشميري.

كما أن القيود المفروضة على الإنترنت ووسائل الاتصال تؤثر سلبًا على التعليم، والصحة، وحتى العلاقات الاجتماعية. وفي غياب العدالة، يشعر الكثير من الكشميريين بأنهم منسيون، ومحاصرون في أرضهم، بلا صوت ولا أمل.

ازدواجية الخطاب الرسمي

في الوقت الذي يسعى فيه النظام الهندي بقيادة ناريندرا مودي لتصدير صورة “كشمير الجديدة”، التي تشهد “التنمية والاستثمار”.

لا يمكن تجاهل الفجوة الهائلة بين هذا الخطاب وبين الواقع الملموس على الأرض. فالمهرجانات السياحية، والمشاريع الاستثمارية، لا تخفي عسكرة الحياة اليومية، ولا تلغي معاناة أمهات يُداهم بيوتهن ليلًا، أو شباب يُعتقلون لمجرد الاشتباه.

إن محاولات “تطبيع” الاحتلال، عبر مشروعات البنية التحتية أو الترويج للانتخابات المحلية، تصطدم دومًا بحقيقة جوهرية: لا يمكن بناء سلام حقيقي دون الاعتراف بحق الشعب الكشميري في تقرير مصيره، ودون إنهاء الاحتلال، ومحاسبة مرتكبي الجرائم بحق الأبرياء.

 الطريق إلى العدالة

كشمير المحتلة ليست مجرد أزمة سياسية عابرة، بل جرح مفتوح في ضمير العالم. الصمت الدولي، وتواطؤ بعض القوى الكبرى مع الرواية الرسمية للهند، أسهما في إطالة أمد المعاناة. لكن الواقع يقول إن القمع لا يمكن أن يُخرس صوت شعبٍ يطالب بحقه في الحرية.

ما يجري في جامو وكشمير ليس سوى انعكاس لسياسات استعمارية بثوب حديث. وإذا لم يتحرك المجتمع الدولي لوقف هذه الانتهاكات، فإن المنطقة ستظل عرضة لمزيد من الانفجار، الذي لن يقتصر ضرره على كشمير وحدها، بل سيهدد استقرار جنوب آسيا بأكملها.

العدالة ليست خيارًا ترفيهيًا، بل ضرورة أخلاقية وتاريخية. والشعب الكشميري، رغم القمع والعسكرة، لا يزال متمسكًا بأمله في التحرر، ومواصلة نضاله من أجل مستقبل يُبنى على الكرامة والحرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى